سميحة حمدان
عمان – يامن نوباني
سميحة شابة في العشرينات من عمرها ولدت طفلتها، وفوهة البندقية مسلطة عليها. المجندة والسلاسل كانوا بانتظارها، بدلا من أمها وشقيقاتها وقريباتها والورود ومظاهر الزينة.
منتصف عام 1981، كان يعقوب (10 أشهر) ينتظر أختا ما زالت جنينا في الشهر السابع في أحشاء والدته سميحة، لكن جنود الاحتلال انتزعوا يعقوب من حضنها، ووضعوا الأصفاد في يديها.
ففي ليلة 23 حزيران 1981، اعتقلت سميحة حمدان (20 عاما آنذاك)، مع عدد من أفراد عائلتها من بيوتهم في مدينة بيت لحم، واقتيدوا لمركز تحقيق تابع للاحتلال في سجن الخليل.
ستمضي سميحة ستة أيام في سجن الخليل، وستمتنع خلالها عن الأكل والشرب، رفضا لاعتقالها، ومطالبة بإطلاق سراحها، لأنه لا علاقة لها بادعاءات الاحتلال.
بعد الخليل، ستنقل سميحة إلى مركز تحقيق “المسكوبية” في القدس، وستمكث هناك عدة أسابيع وتخضع لتحقيق قاسٍ.
وفي اتصال هاتفي مع “وفا” حيث تقيم الآن في الأردن، قالت سميحة: ماذا يمكن أن يعتري أما تركت ابنا رضيعا خلفها، وحاملا في شهرها السابع، وهي تنتقل من جيب عسكري إلى جيب، ومن بوسطة إلى أخرى، ومن تحقيق إلى تحقيق؟ وتابعت: جئت من الكويت التي ولدت وعشت فيها، قبل اعتقالي بأعوام قليلة، أي أنني ما زلت أتعرف على البلاد تحت وطأة الاحتلال.
وأضافت: ما زاد الأمر سوءا هو اعتقال معظم العائلة بمن فيهم زوجي، أقرباء، وقريبات كبار بالعمر.
وفي اعتقال سميحة والعائلة، تكتب المحررة نادية الخياط في كتابها الصادر منتصف هذا العام (2021) عن وزارة الثقافة الفلسطينية: “في بدايات صيف 1981 هرعنا لاستقبال الزائرات، امرأة في الخمسينات من العمر، أخرى في الأربعينات، وشابتان بمثل أعمارنا في العشرينات، ما أذهلنا أن إحدى الشابتين يتقدمها بطنها الكبير وتلهث تعبا، أسرعت إحدانا لإسنادها ومساعدتها في الوصول إلى الغرفة التي أشارت إليها السجانة، جلست إلى حافة أول سرير قابلها، اصطدم رأسها بحافة السرير الذي فوقه، تألمت بصمت، فأغلقت عينيها تعصرهما من شدة الضربة، عرفنا أنهن عائلة واحدة: سميحة، حماتها، عمة زوجها، وأخته التي ما زالت عروسا جديدة”.
وأضافت سميحة: نقلت إلى سجن النساء في مدينة الرملة والمعروف باسم “نفي ترتسا”، وما هي إلا أيام قليلة حتى جاءني المخاض، فنقلت إلى مستشفى الرملة، وأنجبت ثائرة “أميرة” بتاريخ 5 آب 1981، وبعد 48 ساعة من الولادة أعادوني إلى السجن مجددا.
وفي التفاصيل المؤلمة للولادة، قالت: كنت أتمنى ألا ألد! مع أنها أمنية أية شابة، لكنها ليست أمنية أحد في تلك الظروف والأجواء.
وتابعت: جنديان يحرسان الباب من الخارج، بينما تتناوب ثلاث مجندات على مراقبتي داخل الغرفة، كنت خائفة ومتوترة بشكل كبير، وطوال الولادة التي تمت في ظروف طبيعية كنت في حالة صحو، والمجندة قبالتي بسلاحها.
“كنت بحاجة إلى أمي، أختي، في تلك اللحظات، لا إلى مجندة…”، قالت سميحة.
وأضافت: كل شيء كان فوق التصور والتحمل في تلك الفترة، فأهلي في الكويت، وأنا وحيدة في فلسطين التي آتيها لأول مرة، ولم أكن قد بدأت التعود على الاحتلال، وإذ بي في السجن! وفي ظرف ولادة خلال أقل من شهرين بداخله.
وقالت: بعد مرور 24 ساعة على الولادة طالبت برؤية ابنتي، فأحضرت لي الطبيبة، هذا إن كانت طبيبة، فأنت هناك لا تعرف الجندي من الطبيب، أحضرت لي في عملية استفزاز وتوتير 20 سريرا لأطفال ولدوا حديثا وطالبتني بمعرفة من تكون ابنتي، فقلت: السرير السادس. عرفتها من بشرتها التي تشبهني وتشبه شقيقها الرضيع الذي تركته خلفي، بين اللونين الأبيض والأحمر، فقامت الطبيبة بتفقد يد الطفلة لتجد مكتوبا عليها: سميحة.
وفي وصف تسليم الطفلة ثائرة لذويها خارج السجن تكتب الخياط: “جريمة كبرى أن تعيش سنتين من عمرها لا تعرف من البشر إلا الأنثى، حتى الحيوانات لم تكن تعرف منها إلا القطط التي كانت نادرا ما تزورنا، لم تر رجلا أو طفلة طيلة وجودها في السجن، كيف ستواجه ضجيج الحياة؟ ازدحام الشوارع، الحافلات والأضواء بعد هذه العتمة والركود؟ ماذا ستفعل عندما ترى الأبواب المفتوحة؟ تتساءل المحررة نادية الخياط في روايتها لقصة ولادة (ثائرة) ابنة الأسيرة سميحة حمدان عام 1981”.
وتتابع الخياط عن تلك الأيام: أضافت ثائرة نكهة جديدة لحياتنا، ورمينا الروتين اليومي القاتل، نتابع نموها لحظة بلحظة، جاءت ثائرة لتشبع رغبة الأمومة لدينا. لكن القهر يفطر القلوب لعدم قدرتنا على توفير بعض من احتياجات الوالدة والمولودة، في بداية الأمر خصصوا لها كمية قليلة من حساء الخضار وبعد فترة وجيزة أوقفوها، لم تكن إدارة السجن تكترث لتغيير نوعية أو كمية الطعام، كانت تحصل على وجبة السجينة العادية، فنقوم باقتطاع ما يلزم لامرأة مرضع من وجباتنا القليلة والفقيرة بالمواد الغذائية، لضمان استمرار عملية الرضاعة.
لم يسمح بدخول الألعاب المخصصة للأطفال، فنخترع لها ألعابا حسب الإمكانيات، كالسفن الورقية، ودمى من ملابسنا، وفي إحدى المرات وجدت سميحة صورة لأبو عمار في جريدة عبرية، فألصقتها لثائرة على الحائط، فاعتادت ثائرة النظر إليها، لكن بعد أسبوع انتبهت إليها إحدى السجانات وقامت بتمزيقها، ما دفع ثائرة للبكاء.
كانت جدة ثائرة تقضي حكما مدته 28 شهرا، بينما عمتها 23 شهرا، وهي التي ستستلم ثائرة بعد خروجها، وهي أقسى اللحظات علينا جميعا، فما أن اقتربت ثائرة من بلوغ العامين، حتى بدأنا بتجهيز حفلة فراقها، فصنعنا لها كعكة من المواد البسيطة المتوفرة، وما خبأناه لتلك المناسبة، (بسكويت، برتقال، سكر)، وأعددناها على صينية أخذناها خفية من المطبخ. كما صنعنا لها تاجا من الأعشاب التي وجدناها في ساحة السجن أثناء ساعة الفورة، وحين خرجت ثائرة معنا في آخر زيارة لتسليمها، لم تفرح أيا منا بزيارة أهلها، رغم انتظارنا لتلك الزيارات، لكن وداع ثائرة كان أليما.
بعد أسبوعين كنا على موعد الزيارة التالية، والتي ستأتي فيها ثائرة لتزور أمها لأول مرة، فجاءت تبكي وتقول: “ماما بدي عندك”، فأجابتها سميحة: “لأ ماما برة أحسن من هون، أنا والبنات كلهم بدنا نيجي عندك”.
“جاء اسمي ضمن المقرر الإفراج عنهم في صفقة التبادل عام 1985، لكنني رفضت لأنه لم يتبق من محكوميتي إلا شهر واحد، وطالبت إدارة السجن بوضع اسم أسيرة أخرى غيري”، قالت سميحة.
وحول ظروفها الحالية، قالت سميحة: توفي زوجي عام 2005، وتوفي ابني الكبير يعقوب العام الماضي (2020)، الآن أعيش مع ابني الصغير عيسى في عمان، بنتي حنين متزوجة في العقبة، وثائرة في الولايات المتحدة الأميركية، أما والدي فقد توفي بعد دخولي السجن بأقل من عام (1982)، كما توفي والد زوجي أيضا عام 1982.
وأضافت: بعد إطلاق سراحي أخذوني مباشرة إلى الجسر، حيث كان الإبعاد مباشرة ينتظرني، سلمني الصليب الأحمر الدولي للجانب الأردني، وفي الأردن كان طفلاي يعقوب وثائرة في انتظاري، لكن يعقوب لم يعرفني! فقد تركته وهو ابن عشرة أشهر، احتجت عامين ليعتاد بأنني أمه، التي عادت إليه بعد غربة إجبارية لخمس سنوات.