جنين – يامن نوباني
لحظة وصولنا مقبرة شهداء مخيم جنين، الذين ارتقوا في معركة الدفاع عن المخيم في نيسان 2002، لفت انتباهنا امرأة تدور حول أحد القبور، وما أن رأتنا نمشي تجاهها حتى ألقت وردة على قبر شهيد وغادرت.
إنه قبر الشاب يزن منذر أبو طبيخ (19 عاماً) الذي روى بدمه أرض مخيم جنين في 6/2/2020.
المرأة، تذكرت أنها لم تسقِ القبر هذه الظهيرة، الثلاثاء، 24 آب 2021، لتعود مرة أخرى بعد أن ابتعدت عدة أمتار، طالبةً أن لا تظهر في الكاميرا.
ابتعدنا قليلا وأطفأنا الكاميرا احتراما لخصوصية وطلب المرأة، التي رشقت ابريق ماء على رخام قبره، وغادرت.
عدنا للقبر، الذي تعلو حجارته صورة ليزن، بينما تنتشر عشرات الأنواع من الورود على جانبيه، وفي محيطه. وبينما كنا ندقق في تفاصيله، وإذ برجل في أواسط الأربعينات يدخل المقبرة متجها إلينا، فيجلس على القبر ذاته ويبدأ تلاوة الفاتحة وقراءة الأدعية.
استأذنّا الرجل لنسأله عن نفسه والمرأة التي غادرت والشهيد..
اسمي منذر أبو طبيخ، والد الشهيد يزن، ومن غادرت هي أمه، نأتي إلى هنا يومياً، بعد انتهاء دوامنا الوظيفي، أنا معلم وهي معلمة.
وأضاف: أحياناً تسبقني وأحيانا أسبقها، أو نلتقي سويّة على القبر، نرتبه ونسقي وروده وننظف محيطه من الأعشاب والأشواك، ندعو لابننا ونغادر.
وقال: حين أحضر إلى هنا، لقبر ابني الشهيد، أشعر براحة نفسية.
“يزن ابننا الكبير، حياتنا، حتى اليوم لم نستوعب صدمة فقدانه، كان عاشقا لتراب الوطن”. يقول أبو يزن.
وتابع: عام ونصف بالتمام ونحن نأتي إلى قبره يومياً، لا نفارقه، نتحدث إليه، نخبره أحوالنا وأحوال الوطن والمخيم وأحداثه، أخبار أصدقائه وما يخطر في بالنا من أمور حياتية وشخصية، نحدثه عن البيت وأشقائه وشقيقاته.
يفتخر أبو يزن بأن ابنه وإن رحل مبكراً عن الحياة فهو “شهيد”: كثيراً ما ذهبت إلى مواقع المواجهات لأقوم بإعادته إلى البيت، دائما كنا نخاف عليه، كانت المواجهات بالنسبة إليه سباق، يذهب إليها مسرعاً، ما يخفف رحيله المبكر عنا أنه “شهيد”.
وأضاف: كان مبادراً، يحمل دافعا داخليا يذهب به إلى أرض المواجهة، حتى أنه حين استشهد، كان حافي القدمين، عندما سمع أن جيش الاحتلال اقتحم المخيم وأن مواجهات عنيفة تدور بين الشبان والجنود، هبّ دون أن يلبس حذاءً في رجليه.
وتابع: تأثر يزن باستشهاد أحمد جرار، الذي سبقه بعامين، فكان نصيبه الاستشهاد في التاريخ ذاته، السادس من شباط.
” كان يزن طالبا متميزا في دراسته في جامعة الاستقلال، لكنه استشهد قبل أن يكمل سنته الأولى، له أربعة أشقاء، اعتادوا على دلاله، كما أنه كان يعاملني كصديق وليس فقط أب، هجرنا من قرية صبارين (35 كم جنوب حيفا)” أضاف أبو طبيخ.
وقال: ليزن شبكة علاقات وصداقات واسعة، يزورون قبره باستمرار، ثم يأتون لبيتنا فهم اعتادوا قبل استشهاده المجيء معه إلينا، وكان من المميزين في جامعة الاستقلال خاصة في الألعاب الرياضية، فالرياضة كانت هوايته وموهبته التي أبدع بها.
يتوسط قبر يزن المقبرة، محاطاً بعشرات الشهداء الذين سبقوه، خاصة في شهداء نيسان 2002، حيث دفن أكثر من 52 شهيداً، ويعرف هذا الجزء من المقبرة بالقسم الثاني، فيما افتتح قسم ثالث كمقبرة للمخيم نهايات 2019 كما أن الشهداء أصبحوا يدفنون به، وكان ضياء الصباريني أول شهيد في هذا القسم تبعه صالح عمار الذي استشهد قبل أسبوعين، أما القسم الأول والذي يحوي قبورا لشهداء الانتفاضة الأولى، اضافة لكونه مقبرة للأموات العاديين فقد أغلق قبل أكثر من عشرين عاماً.
لا يدخل أحد مقبرة شهداء مخيم جنين دون أن يلفت انتباهه قبر يزن أبو طبيخ، لشدة عناية ذويه به، فيبدو وكأنه جنة صغيرة.
أحد عشر شهيداً قدمتهم محافظة جنين منذ بداية العام الجاري (2021)، أكثر من نصفهم من مخيم جنين، ستة منهم ارتقوا منذ مطلع شهر آب الجاري، فيما تشير احصائية من المخيم أن عدد شهدائه منذ 1967 بلغ (176) شهيداً.