أمضى في سجون الاحتلال 22 عامًا وكان علمًا من أعلام الحركة الأسيرة، وترك بصمات نضالية لأجيال من المناضلين الفلسطينيين.
الشهيد الأسير عمر القاسم، تُروى سيرته في كل مدينة وشارع ومخيم في فلسطين عامة، فهو عنوان الصمود الصبر، وكان يلقب بـ “مانديلا فلسطين”. هو ابن حارة السعدية في القدس المحتلة، ولد في تاريخ 13 تشرين ثاني/نوفمبر 1941، وارتبط منذ صغره بالعمل الوطني.
كان للقاسم دورٌ كبير بعد نكسة حزيران/ يونيو، في تنظيم المقاومة الشعبية بالقدس. وانضم إلى حركة القوميين العرب في عمر الـ 17. وكان في مقدمة المظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال، ولم يغب عن أي فعالية وطنية رافضة لوجود الاحتلال في المدينة المقدسة.
ونظرًا لنشاطه السياسي والسري في حركة القوميين العرب، أصبح على رأس قائمة المطلوبين في القدس، وكان أول المُستهدفين من قبل الاحتلال، ونجح بالإفلات من الاعتقال مرات عدة.
غادر القاسم القدس إلى المملكة الأردنية تفاديًا للاعتقال، والتحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتي تأسست امتدادًا لحركة القوميين العرب، وانتخب عضوًا في لجنتها المركزية، حتى أصبح عضوًا في القيادة العسكرية للجبهة الشعبية، وتسلم مسؤولية القطاع الأوسط في عام 1968.
الأسر
اجتاز القاسم نهر الأردن برفقة مجموعة فدائية من الكوادر، كانت تهدف للوصول إلى مدينة رام الله، والتمركز فيها، غير أنها فوجئت أثناء عودتها بكمين للاحتلال قرب قرية كفر مالك شمال شرق المدينة، فقررت أن لا تستسلم للاحتلال، وقاتلت لكنها لم تستطع المواصلة بسبب نفاد الذخيرة، حينها تمكنت قوات الاحتلال من أسر المجموعة، وأعلن حينها الناطق باسم الاحتلال أن قواته اشتبكت مع المجموعة وتمكنت من أسر قائدها البالغ من العمر 27 عامًا، وهو شاب من سكان مدينة القدس.
تعرض الشهيد ومجموعته لتحقيق قاس، وصنوفا مختلفة من أساليب التعذيب على يد السجانين، إلى أن حكمت عليه محكمة الاحتلال العسكرية بالسجن المؤبد، ومكث في الغرف الإسمنتية فترة طويلة، كما شهد خلال فترة اعتقاله تنقلًا بين العديد من السجون وأقسامها.
ورغم القسوة التي عاشها داخل السجون والمعاملة اللا إنسانية، إلا أن الشهيد القاسم ظل صلبًا، ولم يستسلم للواقع الذي يعيشه، والشروط الحياتية القاسية، ولعب دورًا بارزًا في عملية التثقيف التنظيمي والسياسي، والتعبئة والحشد المعنوي في إعداد الأسرى وفي مواجهة إدارات القمع الاحتلالية لتحسين ظروف الاعتقال.
شارك القاسم في العديد من الإضرابات عن الطعام التي خاضها الأسرى في ذلك الوقت وكان من أبرز الداعين لها، كذلك ساهم في القيام بعشرات الخطوات الاحتجاجية، ونسج علاقات قائمة على الاحترام فحظي باحترام الأسرى، الأمر الذي جعله يفرض نفسه بقوة في الحركة الأسيرة.
بعد عملية تبادل الأسرى عام 1985، تعرضت الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال لعمليات قمع وإذلال لسحب إنجازاتها ومكاسبها، إلا أن الشهيد القاسم ورفاقه تصدوا وبحزم لذلك، من أجل تثبيت تلك المكاسب التي تحققت بفعل دماء وآلام الأسرى.
استدعت إدارة السجن الشهيد ‘عمر القاسم‘ ورفيقه الشهيد ‘أنيس دولة‘ ونقلوهما على متن طائرة مروحية إلى مكان عملية ‘معالوت‘ في الجليل والتي نفذتها مجموعة مسلحة تابعة للجبهة الديمقراطية واحتلال مبنى ورهائن، وطلبوا منه التحدث للفدائيين لتسليم أنفسهم وإطلاق سراح الرهائن، غير أن الشهيد القاسم رفض ذلك، الأمر الذي استفز الاحتلال فانهالوا عليه بالضرب المبرح ووضعوه في الزنازين الانفرادية، ورفضوا إدراج اسمه في كل عمليات تبادل الأسرى التي حدثت فيما بعد.
“سعادتي بتحرركم طغت على حياتي وأسبح في بحر من النشوة”
إن صلابة عمر النفسية وإيمانه بعدالة القضية كانت الوسيلة الوحيدة لمواجهة الرد الانتقامي القاسي الذي عمد إليه الاحتلال، فبعد عملية التبادل التي وقعت بين الجبهة الشعبية القيادة العامة والاحتلال عام 1985، خرج معظم رفاقه في الأسر، فيما تم استثناء اسمه من قائمة المُفرج عنهم.
إلا أن الشهيد جسّد موقفًا وحدويًا، وذلك حين تحدث في ندوة تضم كل الذين سيفرج عنهم، وقال “إنه إنجاز وطني كبير، ونحن نعيش الآن عرسًا وطنيًا، وعلينا أن نعمل على إنجاحه، ونحن الذين سنبقى، لا نحزن حتى لا يفقد الرفاق والأخوة فرحة خروجهم. علينا أن نفرح معهم”.
وبعد خروج المعتقلين واستقرارهم كتب لأحد رفاقه: “سعادتي بتحرركم طغت على حياتي وأسبح في بحر من النشوة، إن هذا ليس كلامًا مبالغًا فيه، فليس من الممكن لإنسان مثلي أن يجد طعم الحياة إلا أن هذا الشعور العميق من السعادة الذي يسيطر على نفسي نتيجة لتحرر هذا العدد الكبير من الأحباء”.
“ما يهمني هو قضية شعبي، وأن لا يبقى كابوس الاحتلال على صدر الشعب”
وبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 1987 حاول الاحتلال الدفع بخطوات للتهدئة في محاولة لاحتواء زخم الانتفاضة المتصاعد، إذ رأى الاحتلال أيضًا أن تأثير عمر القاسم تجاوز حدود المعتقل، وأثناء مقابلة اسحق نافون، رئيس الاحتلال السابق مع القاسم داخل السجن، طلب منه عدم القيام بأي نشاط سياسي، مقابل الإفراج عنه والسماح له بالإقامة في القدس، وجاء رد عمر حازمًا: “أمضيت عشرين عامًا في الاعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وأن لا يبقى كابوس الاحتلال على صدر الشعب. سأبقى أناضل وسوف يأتي اليوم الذي أتحرر فيه”.
استشهاده
عانى الشهيد على مدار واحد وعشرين عامًا في الأسر، أصيب خلالها بالعديد من الأمراض، في ظل سياسة الإهمال الطبي المتعمدة من قبل إدارة مصلحة السجون، ولم يستطع تحمل آلامه، فكان الموعد مع الشهادة في الرابع من حزيران عام 1989.
دفن الشهيد عمر القاسم في مقبرة الأسباط في مدينة القدس، وشارك في تشييع جثمانه الآلاف من الجماهير والقيادات السياسية والوطنية، كما أقيمت للشهيد مسيرات وجنازات رمزية، ومظاهرات عمت كافة أرجاء الأرض المحتلة.