“ترانزستور” باجس أبو عطوان يذيع مجدداً أخبار الثورة

كتب يامن نوباني: استشهد باجس أبو عطوان في 18 حزيران 1974، وسكت “الترانزستور” الذي كان يذيع أخبار الوطن، وثورة فيتنام، ويؤنس باجس ومجموعته المسلحة.

بعد 48 عاماً على استشهاده، عثر أحد المزارعين، أول أمس، على مقتنيات باجس داخل أحد الكهوف المحيطة بدورا جنوب الخليل، بعد أن انطفأت البطاريات وانتهى العمر الافتراضي للترانزستور، لكن خبرا من زمن الثورة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عاد ليبث من جديد.

من المقتنيات أيضاً، مفتاح وسيخ من حديد لتنظيف البندقية، وبطاريات لـ”الترانزستور” الذي انقسم إلى قسمين، وأسلاك توصيل الشرارة إلى العبوة الناسفة، ورائحة بارود ظلت عالقة في المكان.

لم يكن يريد من الثورة أكثر من بندقية، بندقية ليست مجانية، بل سيدفع ثمنها من عمله الشاق في المقهى، من مشيه مسافة 5 كم يوميا من خربته “الطبقة” إلى بلدة دورا جنوب الخليل.

52 عملية مسلحة ضد الاحتلال، نفذت في الجبل والشارع والقرية والخربة، في ضوء الشمس وعتمة الليل، لم يقدم فلاح واحد شهادة واحدة ضد باجس أبو عطوان، فهو لم يقتل بقرة، ولم تمتد يده إلى تينة، ولا إلى عنقود عنب من دالية.

كان يقول دائما لرفاق المجموعة: “لم نأتِ كجراد، والثورة تدفع مخصصاتنا، وما أكثر ما تتأخر، ولكننا لسنا موظفين في بنك، ولم يستأجرنا أحد لحمل البندقية”.

يتصل باجس في الحاكم العسكري: آلو، إنني أبو شنار أو باجس أبو عطوان، أريد أن أقول لك إن “أبو علي” راعي الغنم قد ولد له طفل هذا اليوم، وان فلاحا من دورا قدم لنا ثلاثة ديوك وسلة تين وصحارة عنب، وبدأنا نزرع القمح والتين والعنب في الجبل، ولدينا طاحونة، ونحن نأكل خبزا ساخنا، ولدينا بقرة، نحن نشرب الحليب. ثم يلقي باجس بالسماعة ويصرخ الحاكم العسكري آلو آلو.. ثم يُنسَف بيت أبو باجس.

بنت هيفاء وعبلة، شقيقتا الشهيد، البيت من جديد، ثم جاء الاسرائيليون ونسفوه ثانية، كانوا يرفضون أن يكون هناك سقف لعائلة باجس أبو عطوان. في المرة الأولى (1968) كان سبب نسفه تجنيد موسى أبو عطوان لابنه باجس وعلي أبو مليحة والتخطيط لعملياتهم قبل المطاردة، فيما كان النسف الثاني (1971) سببه باجس وعملياته.

ولد أبو عطوان عام 1948 وعمل في سن العاشرة مع والده في أحد مقاهي دورا، وفي عام 1968 توجه للعمل المسلح في جبال الخليل، وانضم إلى مجموعة مسلحة بقيادة علي أبو مليحة الملقب بـ”ملك الجبل”، ليستلم بعد استشهاده في منطقة “أبو خروبة”، قيادة المجموعة.

عام 1970 تعتقل عبلة الأطرش، شقيقة باجس، وتحكم بالسجن تسعة أشهر بتهمة مساعدة الفدائيين، وفي عام 1972 تعتقل شقيقتها هيفاء وتحكم بالسجن ستة أشهر بتهمة الانتماء إلى خلية فدائية.

وتبصق الأخت الكبرى في وجه الحاكم العسكري للخليل الذي كذب على والدها في السجن، وقال له إن باجس قتل، وفي ذلك الوقت كان باجس يدفع سبعة دنانير لأحد رعاة الأغنام من رأس غنم، قبض الراعي الدنانير ومضى وهو يحدث نفسه: البنادق في أيديهم ومع ذلك فهم يدفعون الثمن.

لقد دفعوا الثمن، وكانوا دائما يدفعون ثمن ما يأكلون. (مات البطل، عاش البطل).

في العام الذي استشهد فيه باجس (1974) الشاعر والكاتب معين بسيسو يتولى رواية باجس ويصدر: “باجس أبو عطوان.. مات البطل عاش البطل”، والتي صدرت عن دار الفارابي في بيروت بالطبعة الثانية سنة 2014.

وجاء في “مات البطل عاش البطل”: “الآن بدأ الفلاحون يعلمونه ما لم يتعلمه في المدرسة، ما لم يتعلمه في الكتاب، وفوق اللوح الاسود. كان يسمعهم يتحدثون وهم يتأوهون عن أيام زمان، حينما كان الباعة في أسواق بئر السبع وغزة ويافا يصيحون وهم يرفعون عناقيد العنب الذهبية في ايديهم: يا عنب الخليل يا عنب.. كانت بئر السبع على مرمى عنقود من العنب، وكانت يافا على مرمى عنقودين، وكانت غزة على مرمى ثلاثة عناقيد، أما الآن.. أما الآن…

ويتابع بسيسو رواية البطل: لأول مرة بدأ باجس يحب الجغرافيا، فكان حينما يمضي الى بيته في خربة الطبقة، كان يفتح المصور الجغرافي على خارطة فلسطين ويضع اصبعه على يافا وبئر السبع وغزة، وعرف لأول مرة مأساة الفلاحين الجغرافية، انهم لا يستطيعون ان يقفزوا في الهواء لكي يصلوا الى تلك المدن التي كانوا يصلون اليها بالباصات او التركات او حتى ظهور الحمير.. ان عنقود العنب ليس هو بساط الريح…

خلال أيام تدريبه في الجيش الاردني، كانوا يدربونه على اطلاق الرصاص ضد أكياس الرمل، كان العدو واضحا، ومع ذلك فقد حولوه الى عدو غامض، يمكن أن يكون كل شيء، كيس رمل وكيس ماء ايضا. ولم يكن باجس في حاجة الى من يدربه على استخدام البندقية، او ممارسة الكراهية للاحتلال، كان بحاجة الى شيء اسمه: البندقية.

باجس يتصل بنشطاء من “قوات العاصفة” التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، بعد أن سمع فلاحي دورا يتهامسون بأن هناك مجموعة قريبة قد أطلقت رصاصا وأصدرت بلاغا، وأعلنت ثورة.. طالبا الانضمام إليهم، رافضا توكيل محام للدفاع عن والده الذي حكم بالسجن لثماني سنوات، قائلا: سأترافع عنه بالرصاص، إنني أملك بعض المال، لقد بعت نصيبي في المقهى، وسأدفع ثمن بندقية، سأدفعه كاملا، والآن سوف أوفر عليكم ذخيرة التدريب وفوق ذلك فأنا أعرف هذه الجبال كما أعرف وجهي، وأعرف عشرات الفلاحين، أعرفهم بالاسم وأعرف أولادهم وأعرف كيف يحفظ العنب ويؤكل طازجا في عز الشتاء.

جاء قائده إلى الجبل، ووضع الكلاشينكوف في يده، وقال له: هذا هو العدو، ليس كيسا غامضا من الرمل وليس كيسا غامضا من الماء، فهو عدو يطلق الرصاص عليك فلا بد أن تطلق الرصاص عليه. وبدا باجس يطلق الرصاص وقد وجد عدوا يعرفه، دوريات تفتيش وعربات ملاحقة، جنود مطاردة ومفرزة اعدام، انه الدبابة والسجن والكيبوتس.

كان لباجس وتلامذة الخرب والقرى صديق يعمل راعي غنم، وكان يحلم براديو “ترانزستور” من أجل ان يسمع شيئا واحد: أخبار فيتنام. كان يحس أنهم يقاتلون مثله، هذا الراعي “أبو علي” هو الذي سيقود باجس لأول مرة إلى مقاتلي العاصفة، ليصبح ثائرا معهم في الجبال، وليقاتل باجس وأبو علي ببندقية وشبابة.

“معجزة الفلسطيني في قدمه، وأنا لا أكشف سرا للعدو، فالفلسطيني يذبح من قدمه، ومن أجل هذا فَهُم يعطون الفم الفلسطيني ألف كيلو متر في الهواء، لكي ينطلق فوق صوته، ومن أجل هذا فَهُم يعطون اليد الفلسطينية ألف كيلومتر من الورق لكي يكتب فوقها، أما أمام القدم الفلسطينية.. فهناك الأسلاك المكهربة والأسلاك الشائكة، وهناك حقول الألغام، وهناك مليون جرس إنذار يدق كلما لمست قدم فلسطينية شبرا من الأرض” (عاش البطل، مات البطل”.

من الزمن الذي كان يجوع فيه الفدائي في الجبل ولا يجد خبزا، لا يجد ما يطعمه لفمه غير الحشائش الطرية، الزمن الذي كانت تجوع فيه البنادق ولا تجد ذخيرة، فينطلق الرصاص على رأس العدو.

حين تتحول قصة الشهيد المروية على الشفاه والمسروقة من حارته ومكانه إلى رواية أدبية تلخص مرحلة من النقاء الثوري، والاستعداد التام للتضحية بالروح والدم والأهل والبيت والعمل والمال، فإن من واجبنا ان نقرأها وأن نراه خالدا.

بعد قراءة قصة الشهيد باجس أبو عطوان، يتبادر إلى الذهن، لماذا لا تتحول حياته إلى مسلسل تروي حلقاته كيف يصير المقاتل مقاتلا، وكيف يُتخذ قرار الدفاع عن الأرض، وكيف يجوع البطل ولا يموت، وكيف يصبح الأب المريض أسطورة في السجن، ويدفع ثمنا لرجولة ابنه الشاب الذي يرفض إزاحة البندقية عن طريقها الصحيح، البندقية التي ظلت مصوبة نحو صدر العدو دون أن تخافه أو تحسب حسابا لإمكانياته الهائلة من الاتصالات والتكنولوجيا والعدة والعتاد، كانت لها نظرتها الخاصة صوب طائرة الأباتشي المقاتلة، فهي كانت تراها ترتجف بينما تستند على سلسلة حجارة تنتظر غارة اخرى على دورية.

لماذا لا تتحول إلى فيلم وثائقي، يجوب “خربة الطبقة” ويقدم لنا المقهى كمكان لاجتماعات الثوار السرية، والفلاحين كأيادٍ تقدم ما تستطيع لتظل الثورة مشتعلة، وكيف ينسف البيت مرتين وتستمر الحياة دون تنازل ودون شعور بالذل أو مطالبة الابن بتسليم نفسه لينجو البقية، وكيف تعتقل الشقيقات الصغيرات بتهمة التستر على المقاومة ومساعدتها في الضربات ضد العدو.

سبعة أعوام أمضاها باجس في الجبال، مع مجموعته المكونة من: علي ابو مليحة، وخليل عبد الله مصطفى العواودة، ويوسف اسماعيل مصطفى العواودة، وقد تم اغتيالهم بطريقة مشابهة لطريق اغتيال باجس كما قالت شقيقته عبلة الأطرش لـ”وفا”، اضافة إلى الشهيد ابراهيم سالم اولاد محمد، فيما تبقى يوسف حماد عمرو، وعلي ربعي، واعتقلا وحكم عليهما بالمؤبد مدى الحياة قبل أن يفرج عنهما في صفقة تبادل ويخرجان إلى الأردن حتى يومنا هذا.

في الأول من أيلول 1974 كتب ماجد أبو شرار: لقد وضعت بتصرف الكاتب جميع المعلومات والوثائق المتعلقة بتجربة العمل العصابي في جبال الخليل والجزء الأكبر منها بخط يد باجس أبو عطوان وجزء اخر بخط يد الشهيد علي ابو مليحة القائد السابق للمجموعة، فكانت هذه الرواية التي حال دون اكتمالها كما نريد اعتبارات أمنية قاهرة، لكن هذه الاعتبارات لم تفلح للحظة واحدة في تجريد الرواية من الصدق والحياة.

والبطل في الرواية هنا ليس باجس أبو عطوان ولا عائلته التي نسف العدو بيتها فأعادت بناءه، فنسفه مرة ثانية لتقرر أن تعيش في خيمة ثلاث سنوات متواصلة، والبطل ليس أيا من رفاق باجس في الجبل، البطل الحقيقي في الرواية هو جماهير المنطقة الذين قدموا لباجس ورفاقه الحماية والمأوى والمأكل والذخيرة والمعلومات، وهي الجماهير التي دفعت ثمن كل هذا حصارا دائما من جيش الاحتلال واعتقالات جماعية ومنعهم من العمل وتقييد حركتهم ومنع تصاريح السفر عنهم، لكنهم ظلوا صامدين في وجه القهر والإذلال والتعنت، مقدمين الواجب الوطني اليومي على كل مصلحة أخرى، وحين سقط باجس شهيدا تلفت الفلاحون إلى الجبل، فمن قلب الجبل أتى باجس، وحتما سيأتي الجبل بآخر يأخذ مكانه.

لم يكذب ماجد أبو شرار المولود سنة 1936 في دورا، والذي سيصبح بعد سبع سنوات من اغتيال باجس، شهيدا، بعد أن اغتيل في التاسع من تشرين الأول 1981، بقنبلة تحت سريره في أحد فنادق روما، ودفن في مقبرة الشهداء ببيروت، حيث تولى مناصب رفيعة في “فتح” التي كان من مؤسسيها وأوائل الذين انضموا اليها في الستينيات، حيث كان عضو لجنتها المركزية وامين سر ثوري فتح، ومسؤول الاعلام المركزي بعد استشهاد رفيق دربه كمال عدوان عام 1973 في بيته ببيروت.

وان اختلف الزمن بعض الشيء، وندرت تلك القصص التي تروي حكاية بطل بمفرده، وحكايات التلاحم والاسناد الشعبي وخاصة في مسألة تقديم المأوى والمأكل والمشرب للثوار والمطاردين، علاقة حميمية ربطت باجس ومجموعته الفدائية بالفلاحين، حيث لم يفرض عليهم الخاوات، ولا سرق أرضهم أو اعتدى على ممتلكاتهم، كل شيء كان يحصل عليه كان يدفع ثمنه.

لا احصائية للثوار الذين سقطوا شهداء في المغر والكهوف وحقول الزيتون والبيوت العتيقة المهجورة، على امتداد الجغرافية الفلسطينية منذ بدايات الاحتلال الاسرائيلي إلى اليوم.

باجس من الزمن الذي كان يجوع فيه الفدائي في الجبل ولا يجد خبزا، كانت رصاصات باجس الأخيرة، معدودات، وكانت كل رصاصة يملكها تعني صدر أو رأس جندي، وبقي يطلق النار على دوريات الاحتلال حتى أيامه الأخيرة، حيث تمكن الاحتلال بعد سبع سنوات من مطاردة باجس واغتياله عبر تفجير كهفه، لم يقو ضباط وجنود الاحتلال الذين حضروا إلى المكان من الاقتراب، طالبين من الأهالي الدخول إلى المغارة والتعرف على الجثمان وإخراجه. كانت المغارة بحاجة إلى زحف على البطن لأكثر من عشرة أمتار حتى الوصول إليها، ولم يكن لها باب صريح يُستدل عليه بسهولة.

كانت أشهر عملياته، قرب بيته سنة 1971، بعد أن حاصره الجنود وكمنوا له، فأوقع بينهم عشرات القتلى والجرحى وانسحب، ليُنسف البيت بعدها مباشرة، وكانت لهم حكاياته في التخلص من كمائن العدو، وفي احدى المرات طوى نفسه ودخل في حيز ضيق جدا بداخل صخر جيري حتى مر الجنود وخرج سالما، فأصبح “أبو شنار”، وتروي الحكايات أنه غطى نفسه بحجر بعد أن دخل في شق الصخر.