كتب: بدر أبو نجم
ما تزال صور الشهداء والجرحى والدماء الموشحة على الحجارة داخل باحات المسجد الأقصى المبارك حاضرة في أذههان الشعب الفلسطيني. أولى المشاهد التي بثتها الفضائيات هي نقل مواطن مصاب برصاصة في رأسه يحمله أربعة آخرون وهو يضع يده اليمنى على مكان الجرح في رأسه سببته رصاصات الاحتلال التي أطلقت على المصلين بشكل عشوائي من أجل حماية “ارئيل شارون” الذي اقتحم باحات المسجد الأقصى برفقة أكثر من 2000 جندي إسرائيلي.
تلك المشاهد من الدماء ما زلت أذكرها على شاشات التلفاز.. حينها لم يتجاوز عمري العشرة أعوام فقط، أتذكر أنني سألت أمي حينها عن ما يجري.. إنهم فلسطينيون.. “قالت لي إنهم اقتحمو الأقصى وقتلو العديد من المصلين داخل باحاته”.
مشاهد كثيرة ما زلت أتذكرها أيضا، كمشاهد الدماء في باحات الأقصى ونقل الجرحى الذين منهم من استشهد فيما بعد، وصراخ المصلين والزائرين وصور الحجارة والكراسي الخشبية التي اقتلعت من مكانها والقيت على جنود الاحتلال لمنعهم من الدخول اكثر الى قبة الصخرة والمصلى القبلي. أذكر أنه لم يكن هنالك وقتا بين كل هذه المشاهد، وبين مشهد قتل الطفل محمد الدرة؛ ربما كان من بين تلك المشاهد في الأقصى وغزة شهورا أو ربما سنة، لكن الوقت عندما يمر سريعا لا يبقى سوى تلك المشاهد التي ستظل محفورة في ذاكرتك كطفل تربيت على الأغاني الوطنية في خضم مشاهد جنود الاحتلال وهم يطلقون الرصاص على المتظاهرين في مدن الضفة وغزة، مقابل حجارة الأطفال الصغار كحجر الطفل فارس عودة الذي واجه به دبابة للاحتلال في غزة.
لا مسافة بالنسبة لذاكرتي بين مشاهد ما جرى في الأقصى ومشهد الطفل فارس عودة وبين استشهاد محمد الدرة بين أحضان والديه. قال والد الطفل حينها محمد الدرة عندما كان يأخذ ساتراً هشاً لم يحميه من رصاص جنود الاحتلال، وبعد دقائق معدودة: استشهد الطفل .. كان والد محمد الدرة يصرخ بشدة عله يُسمع جنود الاحتلال بأنه يسطحب معه طفله محمد، ربما كانت هذه الكلمات والصراخ الذي اندفع من حنجرته، مزعجا لجنود الاحتلال فاختاروا أن يطلقوا عليه وعلى ابنه محمد وابلا كثيفا من الرصاص دفعة واحدة، بينما الطفل مستشهدا، ولم يبقى سوى قليل من انفاس الوالد استطاع الأطباء حينها أن ينقذوا حياته ويرتقي الطفل محمد شهيدا.. هذه المشاهد عُرضت مئات المرات على شاشات التلفاز. أذكر حينها أن الكل في البيت بكى بكاءا شديدا على هذه المشاهد الدامية. كلما دخلت البيت هاربا من دورية للاحتلال تقتحم قريتي أرى نفس المشاهد على تلك الشاشات.. هكذا تربى جيل كامل من انتفاضة الأقصى.
في خضم هذا المشاهد من الدماء، كانت تصريحات وزراء حكومة الاحتلال لا تتوقف عن الدعوة لمزيد من القتل، خاصة من قبل “أرئيل شارون”، الذي قتل منا ما قتل، قبل أن يموت بغيبوبة مكث فيها سنوات طوال؛ لطالما سمعت جملة باللغة الإنجليزية على الشاشات كانت تصدح من شارون (نعمل معا الآن “We work together now” )، إنهم كانوا يعملون من أجل القتل.. شارون.. هذا الاسم الذي حفظه كل جيلنا الذي كان يرتبط بالقتل والدم والمجازر؛ لقد حفظنا هذا الاسم جيدا لما كان صداه يتردد مع كل شهيد أو جريح أو مجزرة في أي مدينة فلسطينية على الأقل أطفال انتفاضة الأقصى.. إنه بارع في حفر ذكريات الدم في كل جيل فلسطيني منذ مجازر لبنان حتى مجازر انتفاضة الأقصى وما بعد ذلك.
لم أكن أعرف ما يعنيه كلمة اجتياح الضفة.. ربما عمر العشر سنوات فسر لي هذه الجملة بسبب ترددها على لسان الكثيرين بأن هنالك كارثة ستحصل.. فهمت هذه الجملة من مشاهد الدمار والخراب وعدد الشهداء تحت ركام البيوت؛ لقد عرفت معنى اجتياح، من دموع أمهات الشهداء وصراخهن على أبنائهن في جنين ونابلس. إن كلمة اجتياح تعني القتل والدمار، إنها تعني الحزن والألم والفقدان.. إنها تعنى الخراب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كانت تعني جنين ونابلس وطولكرم ورام الله وغزة.. كانت تعني العشاء الأخير في جنين.
جنين.. ربما حينها ذاكرتي حفظت مخيم جنين بحد ذاته.. هذا المخيم الذي سطر بتضحياته معنى الانتفاضة الفلسطينية بإسمها “الأقصى”.. لقد كان مشهد الدمار هنالك في الاجتياح معنى للكلمة التي فهمتها جيدا بصورتها وليس بمعناها العسكري. لقد كانت تجسيدا لصور الدمار في البلدة القديمة بنابلس، ورائحة الشهداء المنبعثة من بين ركام المنازل، إنها تجسيد واضح لما حصل حينها في مدن الضفة الغربية.. لقد واجه العزل من أبناء شعبنا “مجنزرات” الاحتلال.. لم تغب المشاهد من ذاكرتي بعد، عندما تدخل تلك “المجنزرات” حيا صغيرا وتدوس على كل شيء فيه. لقد مزقت أجساد الشهداء الذين دافعوا عن مدنهم بصدورهم العارية.. إن الاجتياح حينها تلخص لدي بكلمة واحدة وهي: القتل ليس إلا.
ربما صدى هذه الانتفاضة لم يتوقف بعد.. ليس هنالك عشاء أخير في جنين.
ليس هنالك إجتياح أخير في نابلس.
ليس هنالك دمار أخير في مخيم نور شمس.
ليس هنالك محمد الدرة الأخير.. هنالك محمد أبو خضير، والرضيع علي دوابشة، وغيرهم الكثيرين.
هنالك فارس عودة.. ما زال جيله واقفا أمام اليات الاحتلال التي تقصف من بعيد.