كتب: بدر أبو نجم
حزينة انتي أيتها الأزقة الضيقة المعتقة برائحة الشهداء.
حزينة أنتي أيتها البيوت القديمة التي خذلتها صواريخٌ محملةُ بالحقد والقتل.
حزينة أنتي يا مدينة لُقبت بعروس الشمال.. عروسٌ ما رأت يوما سلاما.
حزينة أنتي ما زلتي يا مدينة اكتنفها الحزن والسواد ورائحة البارود في كل مكان.
أذكر يوما أنني كنت اشاهد التلفاز عندما قامت مجنزرة احتلالية بإطلاق الصواريخ على المنازل الآمنة في وسط مدينة نابلس عام 2002، كانت الأمهات حينها تصرخ من شبابيك البيوت المتلاصقة خاصة في البلدة القديمة تناشد الصحفيين الذين منهم من انكفأ على الأرض خوفا من رصاص كان يستهدفهم من تلك المجمزرات الاحتلالية التي كانت تتوغل في كل حي وشارع وبين البيوت تتخذ عشا لها تتربص بكل من يأتي أمامها.. ثم تقتله بوابلٍ من الرصاص.
حدث ذلك في شوارع نابلس وبلدتها القديمة عندما اجتاحتها آليات الاحتلال من كل حدبٍ وصوب. حدث ذلك في مدينة ما زالت تأن من حزنها وحزن أمهاتها الذين ما زلن يبحثن عن فيديو قديم لأبنائهن إبان انتفاضة الأقصى. حدث ذلك عندما سألتني إحدى أمهات الشهداء في المدينة: أتذكر أن إبني ترك وصيته مصورة على شريط فيديو قديم ترك فيه وصيته الأخيرة قبل استشهاده، وتم عرضها حينها على شاشات النلفاز المحلية.
تقول هذه الأم المكلومة وبصوت متحشرج بعد 22 عاما على استشهاد نجلها أن أمنيتها أن تشاهد هذا الفيديو.. لقد إختفى شريط الفيديو القديم.. وتمضي وهي تحدث نفسها لم أستطع أن أسمع منها إلا أنها قالت وعيونها تفيض دمعا و تدير ظهرها لي: لقد إشتقت إليك يا محمد..
لا أتذكر عام 2002 إلا ما شاهدته على شاشات التلفاز المحلية من دخانٍ وصوت الرصاص وصور المجمزرات وهي تدمر كل ما في طريقها في المدينة من مركبات وبعضٍ من الحواجز الخجولة التي وضعها الشبان في طريقها علها تأخر موعد الموت قليلاً..
لا أتذكر من ذلك العام الدامي يوى مشاهد القصف على البلدة القديمة وصراخ الأمهات خلف الأبواب علها تصل إلى مركبات الإسعاف المتواجدة على ا لطرف الاخر من الشارع الضيق محطمة النوافذ بفعل رصاص الاحتلال.. لقد حاولت مركبات الإسعاف أن تأخر موعد الموت قليلا.. لم تستطع ذلك، فقد كان الموت أقرب بكثير من حناجر صرخت لتتفادى الموت حينها.. حينها كانت البيوت تهدم على رؤوس أصحابها والممرات السرية في البلدة القديمة كانت ترش بالغاز السام.. استطاع الجنود العرباء هناك أن يتعرفوا على الممرات السرية التي كان يتحصن بها الشبان ويدافعون عن بلدتهم.. خارطة الطريق التي كانت معهم لا تعرف سوى الجغرافيا.. فهي لا تعرف أصحابها الأصليين.
أذكر أن الناس هناك حوصروا لأسابيع دون طعام وشراب. فقط كانت جثث الشهداء منتشرة بين الزقاق لا يستطيع أحد أن ينتشلهم من بين أزيز الرصاص والموت المنتشر هناك. هناك ورث الأطفال لعبة المطاردة.
المطاردة بين مجنزرة وشاب أعزل يحمل قضية وخارطة الطريق للحرية، يعرفها تماما كما يعرف خفايا البلدة القديمة وخفايا تلك الممرات السرية التي ضجت بأنين وصراخ جنود الاحتلال على مر العقود الماضية. لعبة المطاردة التي ورثها الأطفال هناك. أطفالٌ كإبراهيم النابلسي ورفاقه من الشهداء الذين أتقنوا هذه اللعبة في صغرهم، وأصبحت حرباً يخوضونها مع جيش كامل محملا بالعتاد العسكري. أطفالٌ أتقنوا لعبة المطاردة في طفولتهم وأتقنوها أيضاً في ذات الطفولة مع احتلال أطلق على أجسادهم الصواريخ والرصاص كما أطلقه على من سبقهم في تلك الأزقة.. أتذكرون العام 2002 وصراخ الأمهات من أجل انقاذ الجرحى. نعم هم ذاتهم اليوم من سمعوا هذه الصرخات لكنهم كانوا أطفالا لا يعرفون أنهم سيكونون يوما ما هدفا للرصاص والصواريخ.
لقد أعاد الأربعاء الماضي وما حصل خلاله من مجزرة احتلالية على مدينة نابلس، مشاهد العام 2002. شهداء في الشوارع، واصابات في كل مكان، وتدميرٌ وتخريبٌ في كل أنحاء المدينة.. بالكاد استطعنا حينها أن نلتقط بعض الأنفاس.. استباح الاحتلال المدينة ونشر الحزن ورائحة الرصاص في كل مكان. لكن الثابت في كل مرة هي أن أطفال المدينة لطالما أتقنوا لعبة المطاردة وما زالوا يطاردون الاحتلال وهم أطفال وحين يموتون.. وحينما يبلغ النصاب ويأخذوا من دمائنا حصتهم.. ويرحلون.