على مدار 25 عاما، عرفت كل بقعة من فلسطين، من شمالها إلى جنوبها الزميلة شيرين أبو عاقلة، التي كانت فيها لسان الضحية ونافذتها إلى العالم والشاهد على جرائم الجلاد، وثقت خلالها كافة الأحداث الميدانية والجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، حتى خطت بدمها الخبر الأخير، لمسيرة أيقونة الصحافة الفلسطينية.
في الساعة السادسة و13 دقيقة صباح اليوم الأربعاء، كانت آخر رسالة لأبو عاقلة لقناة الجزيرة عبر البريد الإليكتروني، تحوي “قوات الاحتلال تقتحم مدينة جنين وتحاصر منزلا في منطقة الجابريات، في الطريق إلى هناك أوافيكم بخبر فور اتضاح الصورة”، لكن الصورة التي اتضحت كانت خبر استشهادها برصاصة في الرأس.
في محيط مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بمخيم جنين، لم تكن معدات الصحافة (الدرع والخوذة وكاميرات التصوير)، كفيلة بأن تمنع رصاص قناصي الاحتلال الإسرائيلي من أن تخطف الزميلة أبو عاقلة، في جريمة مكتملة الأركان، أمام عين الحقيقة ومن بين زملائها.
وتظهر لقطات مصورة مشاهد دامية لحظة إصابة الزميلة أبو عاقلة برصاص قناصة الاحتلال، ولحظات مرعبة عاشتها الزميلة شذى حنايشة التي كانت برفقة الشهيدة أبو عاقلة، أعادت للأذهان جريمة إعدام قوات الاحتلال للشهيد محمد الدرة بحضن والده في 28 أيلول/سبتمبر عام 2000.
وتروي حنايشة أنها كانت برفقة أربعة صحفيين يرتدون الدروع والخوذ وساروا باتجاه منطقة مكشوفة لجنود الاحتلال الذين يتمركزون آخر الشارع لتغطية الاقتحام، لكن سرعان ما وصلوا إلى منطقة يصعب الانسحاب منها، وبدأ القناصة بإطلاق النار.
وتضيف حنايشة بأن الزميل علي سمودي أثناء محاولته الاحتماء من الرصاص أصيب في ظهره، وأن شيرين صرخت بأن علي قد أصيب، فسارعت للاحتماء بشجرة وجدار استنادي لكنها سقطت فجأة على الأرض بعدما أصابها رصاص القناصة.
ورغم إصابة أبو عاقلة وسقوطها على الأرض إلا أن الجنود استمروا بإطلاق النار وفق حنايشة، التي حاولت شدها نحوها ولم تتمكن لكثافة الرصاص الموجه نحوهم، حتى تمكن أحد الشبان من القفز عن الجدار الاستنادي الذي حاولتا الاحتماء به، وتمكن من سحبهما إلى مركبة خاصة بصعوبة.
حنايشة وهي من أجيال الصحفيين الذين تربوا على صوت أبو عاقلة خلال العقود الماضية، تحدثت أن الاحتلال يتعمد اغتيال الصحفيين بشكل واضح، وأن مكان إصابة أبو عاقلة يؤكد أن الهدف كان استهداف الصحفيين.
ويؤكد الزميل سمودي لـ”فا” رواية حنايشة، بأنه عند وصوله مع شيرين والزملاء الصحفيين كان الصحفيون يتجمعون في منطقة تقابل جيش الاحتلال في شارع لم يكن يتواجد فيه إلا الصحفيون والجيش، وأنهم ساروا ببطئ مرتدين الزي الصحفي، وما أن صاروا قرابة عشرة أمتار أمامهم حتى بدأ إطلاق النار عليهم.
ويضيف سمودي “أعتقد أن ربنا كتبلي عمر جديد، ما أن أدرت ظهري وعدت للخلف حتى تلقيت رصاصة بكتفي في المنطقة العلوية، ولو كنت سائرا بوجهي لأصبت بالقلب، شعرت بالإصابة رغم ارتدائي الدرع، وبدأت الركض وأول سيارة مدنية ركبتها وطلبت منه نقلي للمستشفى، بينما واصل الاحتلال إطلاق النار”.
وخلال نقله لمستشفى ابن سينا، كان سمودي قد خرج ببث مباشر عبر صفحته على “فيسبوك”، وما أن بدأ الأطباء بتقديم الإسعاف الأولي له، حتى تفاجأ بإحضار الزميلة أبو عاقلة مصابة بجروح خطيرة ليعلن عن استشهادها لاحقا.
وشدد سمودي من على سرير الشفاء: “لم نكن مسلحين ولم نشكل خطرا، ولم يطلب الجيش منا مغادرة المنطقة، ولم يكن بمنطقتنا إطلاق نار أو مسلحين، بل أطلق الاحتلال النار علينا ونحن أمامهم مباشرة وهم يشاهدوننا ومتأكدين من أننا صحفيون، حيث كنا خمسة أو ستة صحفيين نرتدي الزي الصحفي والخوذ ونحمل الكاميرات”.
“هذا قتل متعمد وجريمة متعمدة من الاحتلال للتغطية على جرائمه والتمهيد لأي مجزرة سيرتكبها باستهداف المخيم والمدينة، ويبدو أن الاحتلال يعد العدة لهذه المجزرة ويريد أن يقتل الصحفيين لمنع فضح جرائمه”، كما يوضح سمودي.
بكى سمودي خلال حديثه ولكن ليس من ألم إصابه، بل قهرا على الزميلة أبو عاقلة، والتي عرفها “بطلة وشجاعة ومناضلة وفدائية قضت عمرها في سبيل فلسطين والإعلام، وشاء القدر أن ترتقي شهيدة على أرض مخيم جنين”، وفق قوله.
والشهيدة أبو عاقلة، ليست الضحية الأولى التي تقدمها مهنة الصحافة، على مذبح البحث عن الحقيقة ومتابعة وملاحقة الأحداث الكاشفة لممارسات الاحتلال، فسبقها 54 من الصحفيين الفلسطينيين للشهادة، والذين ارتقوا منذ عام 2000 خلال ملاحقة جرائم المحتل، وفق ما يؤكد عضو الأمانة العامة في نقابة الصحفيين الفلسطينيين عمر نزال.
ويقول نزال لـ”وفا”، بأنه “يوم أسود وحزين في تاريخ الصحافة الفلسطينية، وجريمة جديدة تضاف إلى سجل جرائم الاحتلال بحق الصحفيين والصحافيات الفلسطينيين، مؤكدا أن هذه الجريمة لن تمر دون محاسبة قادة الاحتلال.
ويضيف أن أبو عاقلة صحفية مهنية ومعروفة منذ عقود، منذ اجتياح المدينة والمخيم وانتفاضة عام 2000، ودأبت على الوصول لمدينة جنين ومخيمها ومعروفة لكل أبناء المنطقة، وكانت تغطي كل الاجتياحات والاقتحامات السابقة، فهي أيقونة عند أهالي جنين ومخيمها، واليوم يسيل دمها في هذا المخيم الطاهر.
ويشير إلى أنه وفق ما جمعته النقابة من الزملاء الصحفيين خاصة سمودي وحنايشة، يؤكد أن ما جرى كان استهدافا متعمدا للشهيدة أبو عاقلة، ويشير إلى أن هناك قرارا سياسا إسرائيليا باغتيالها في رسالة واضحة لكل الصحفيين.
وكما عرفت فلسطين ابنة القدس أبو عاقلة التي نقلت أوجاعها للعالم ووثقت جرائم الاحتلال المختلفة بحق مدنها وقراها ومخيماتها، عم الحزن والسخط فلسطين بأكملها، وكرم جثمانها بمسيرة تشييع جابت شوارع مدينة جنين وأزقة مخيمها، مرورا بقرى جنين الجنوبية، قبل أن ينقل لمدينة نابلس، حيث جرى لها تشييع شعبي ورسمي أيضا، فيما من المقرر أن يشارك رئيس دولة فلسطين محمود عباس غدا، بمراسم تشييع جثمانها من مقر الرئاسة في مدينة رام الله، بحضور رسمي وشعبي، قبل أن ينقل لمسقط رأسها بمدينة القدس.
ويؤكد المدير العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار الدويك أن الاحتلال يحاول أن يخفي الحقائق كما جرت العادة، ولكي نعري الاحتلال بروايته نطالب بأن يسمح الاحتلال بإجراء تحقيق بحضور لجنة تحقيق دولية مستقلة ومحايدة لفلسطين وتحقق بجميع ملابسات هذه الجريمة وتكشف كيف تم استهداف الصحفية أبو عاقلة.
وأضاف الدويك في حديث لـ”وفا”، أن الاحتلال تاريخيا لا يقبل بأي لجنة تحقيق دولية ودائما يقول إنه سيقوم بالتحقيق، مؤكدا أن ما جرى جريمة مكتملة الأركان باستهداف صحفية ترتدي الزي الصحفي وتأخذ مكانا واضحا، وأن قتلها يؤشر بأنه كان هناك نية مسبقة للإعدام.
ويشير إلى أن “هذا سلوك معتاد من الاحتلال عندما يجد أن جريمته اخذت صدى ورد فعل دولي كبير جدا، يحاول تغيير الحقائق وقلبها حيث فعلها بأكثر من جريمة كما جرى بإعدام الطفل محمد الدرة عام 2000 وكذلك خلال مسيرات العودة“.
وأضاف أن الاحتلال يحاول تضليل الرأي العام، ولذلك لابد من لجنة تحقيق دولية محايدة تجري تحقيقا بمجريات القضية ومراجعة تسجيلات الكاميرات وشهادات شهود العيان والتحقيق مع الجنود بالميدان وتنظر في نوع الرصاص المستخدم.
وشدد على أنها ليست الجريمة الأولى باستهداف الصحفيين وسبقتها العديد من الجرائم، وكان آخرها قتل الصحفيين ياسر مرتجى وأحمد أبو حسين عام 2018، منوها إلى أنه يجب أن يتم متابعة قضية الشهيدة أبو عاقلة لدى جميع الجهات سواء في محاكم وطنية في الدول أو لدى محكمة الجنايات الدولية أو من خلال المحافل الدولية بالأمم المتحدة وغيرها.
ولدت أبو عاقلة عام 1971 في مدينة القدس المحتلة، وهي حاصلة على درجة البكالوريوس في الصحافة والإعلام من جامعة اليرموك بالمملكة الأردنية الهاشمية.
ويعود أصل الزميلة الراحلة ابو عاقلة إلى مدينة بيت لحم لكنها ولدت وترعرت في القدس، وانهت دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا.
درست في البداية الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن، ثم انتقلت إلى تخصص الصحافة المكتوبة، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة اليرموك في الأردن.
وعادت بعد التخرج إلى فلسطين وعملت في عدة مواقع مثل وكالة الأونروا، وإذاعة صوت فلسطين، وقناة عمان الفضائية، ثم مؤسسة مفتاح، وإذاعة مونت كارلو ولاحقًا انتقلت للعمل في عام 1997 مع شبكة الجزيرة الإعلامية.
وكالة وفا – زهران معالي