مقاومة الضخّ الاستيطاني…دفاع عن النفس وحقّ في قانون الإنسان العالمي
ورقة قانونية للمحامي الأسير طارق برغوث
المحامي طارق برغوث خلال ترافعه عن الطفل “أحمد مناصرة” عام ٢٠١٦
2-2-2022/سجن النقب
عقيدة الدفاع عن النفس ومقاومة الضخ الاستيطاني، الدفاع عن النفس ليس حقاً فقط، وإنما هو أيضاً واجب ممارسته تضمن صيرورة سليمة لمنظومة العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، فالنوايا العدوانية ستبقى حفيظة داخل جدار النفس ولن تتحقق في الواقع، إذا ما تجذرت عقيدة حق الدفاع عن النفس في مجتمعٍ ما.
بهذا المعنى تحدد عقيدة حق الدفاع عن النفس المساحات المسموح التحرك بها من قبل أفراد المجتمع، كما أنها ترسم الخطوط العريضةً للعدوان والهتك.
إن ما يحدث في أرجاء الضفة الغربية والقدس من اعتداءات متكررة في وتيرة متصاعدة من قبل المستوطنين، يعلى بنسبة كبيرة إلى غياب ثقافة الدفاع عن النفس، هذا الغياب يعلى بدوره إلى عدم وجود فهم ووعي كافٍ على المستوى الفردي والجماعي لمبادئ الدفاع عن النفس.
ونظراً لأهمية هذا الحق فإن جميع الشرائع السماوية والدنيوية أولته عنايةً خاصة، حيث عكفت على تحديد مبادئه وتبيانها وتقويمها، وفيما يخص الشرائع الدنيوية، فإن حق الدفاع عن النفس في صيغته الحالية يكاد يكون موحداً في شتى القوانين الوضعية، وهو بمثابة قانون الإنسان العالمي، وبما أن ممارسته الصحيحة تعفي الفرد من أي مسؤولية فإنه منظم ومقنن بنصوص القانون الجنائي -العقوبات- في أغلب بلدان العالم.
المادة “34” من قانون العقوبات “الإسرائيلي” تنظم مسألة الدفاع عن النفس وهي تنص على الآتي: “لا يتحمل الشخص أي مسؤولية عن فعل كان ضرورياً بشكل فوري، من أجل فض اعتداء غير قانوني، تنتجع عنه خطورة فعلية على حياته أو حريته أو جسده أو ممتلكاته هو أو غيره من الأشخاص، ولكن لا يعتبر الشخص مدافعا عن النفس إذا كان سلوكه غير القانوني هو السبب في حدوث الاعتداء، وكان يتوقع بشكل مسبق إمكانية تطور أحداثه بهذا الشكل”.
إن تطبيق هذه المادة على اعتداءات المستوطنين التي تنفذ من قبل جماعات أو أفراد ينتمون إلى تنظيمات متطرفة، مثل تنظيم “تدفيع الثمن” أو تنظيم “شبيبة التلال” سيتطلب تحليل النص من أجل إظهار مبادئه، إن أول هذه المبادئ هو حدوث الاعتداء، ولا بد من فعل يحتوي على عنف ما، موجهاً ضد الجسد أو الحرية أو الممتلكات، وألّا يكون هذا العنف صادراً عن جهة حكومية مخوّلة قانونية لممارسة مثل هذا الفعل العنيف، أما المبدأ الثاني فيتمثل بوجود خطر حقيقي أو ظنّ بوجود شكل لهذا الخطر.
أما المبدأ الثالث فهو فورية الخطر، أي أنه ليس هناك فرصةً أو وقت كافٍ لاستدعاء القوة المخولة قانونياً من أجل التعامل مع هذا الاعتداء الخطير، وأخيراً مبدأ التنافس، أي أن فض الاعتداء والتذرع بحق الدفاع النفس.
أما الجزء الثاني من المادة وهو بالغ الأهمية، يقرر أن الشخص المعتدي لا يحق له أن يدّعي أن الأضرار التي أحدثها هي في سبيل الدفاع عن النفس، لذلك فهو يتحمل المسؤولية كاملة عن هذه الأضرار، وتوضيح هذه الفكرة لنضرب المثل الآتي: إذا قامت مجموعة من المستوطنين باقتحام أرض مسورة من أجل العبث بالمعدات أو المزروعات الموجودة بداخلها، وقام مالك الأرض أو غيره بمحاولة منعهم من ذلك، وخلال هذه المحاولة تعرض مالك الأرض أو الأرض نفسها إلى أضرار، فلا تعتبر أفعال المستوطنين طبقاً لهذا الجزء من المادة، ممارسة لحقهم في الدفاع عن النفس.
في المقابل فإن الأضرار التي قد تلحق بالمستوطنين أو -ممتلكاتهم- أثناء تنفيذهم لهذا الإعتداء لا يتوجب عليها أية مسؤولية على صاحب الأرض أو غيره من الأشخاص الذين فضّو الاعتداء من منطلق تضامني.
أما المادة 34 “ي1” من نفس القانون تنص على الآتي: “لا يتحمل أية مسؤولية عن أي فعل كان ضرورياً بشكل فوري، بهدف صد مقتحم أو دخيل الى مكان السكن أو العمل أو الملكية الزراعية المسورة، العائدة له أو لغيره، من أجل تنفيذ فعل هجومي أو من يحاول الاقتحام كما ذكر سابقاً”.
وهنا أيضاً يعطي القانون رخصة لممارسة العنف لكل شخص من أجل صد كل اقتحام لملكيته الخاصة بهدف تنفيذ نشاط هجومي، بما في ذلك اقتحام الأراضي الزراعية المسورة.
وهنا يجدر بنا التوقف عند هذا النوع من أنواع الملكية الذي يعتبر الأكثر استهدافاً من قبل التنظيمات الاستيطانية -التي تقوم بالاستيلاء على هذه الأراضي- بهدف إنشاء ما يسمى بالبؤر الاستيطانية، أو ما اتضح على تسميته من قبل المستوطنين والسياسيين الداعمين لهم، بحركة الاستيطان “الفتية” نسبةً للحركة الاستيطانية القديمة التي حدثت إبان الهجرات اليهودية إبان العام 1948.
إن هذه البؤر آخذه بالتكاثر بشكل سرطاني خلال العقد الأخير، والسبب يرجع إلى تبني استراتيجية استيطانية مدعومة بشكل موارد، والهدف هو وضع اليد على أكبر قدر ممكن من الأراضي لتحقيق الضمّ الفعلي من خلال ممارسة سياسة الأمر الواقع، “فإسرائيل” لم تنجح بإقرار الخطط الهيكلية الرامية إلى انشاء مستوطنات تقليدية – على سبيل المثال المنطقة المعروفة ب E1 ومستوطنة عطروت-، ولكنها من جهة أخرى تدعم نشاط البؤر الاستيطانية التي يبلغ عددها اليوم نحو الـ70 بؤرة استيطانية، التي تربض على مجموع مساحته 200 كم²، أي ضعف مساحة المستوطنات ” المعترف بها” من قبل حكومة الاحتلال، والتي تقدر بنحو 100كم².
إن الإضرار بالأراضي الزراعية من قبل جماعات المستوطنين غايته دفع أصحابها الفلسطينيين التخلي عنها، كي تصبح عرضةً لتصنيف مواد قانون الأراضي العثماني الذي يسمح للدولة بوضع يدها على الأراضي الزراعية المتروكة لمدة تزيد عن 10 سنوات.
لذلك يجب العمل على وقف هذا الزحف، وأفضل وسيلة لتحقيق هذه الغاية، هي ممارسة حق الدفاع الوارد في نص المادة المذكورة أعلاه، لكن هذه المادة تضع شرطًا لكي تصبح هذه الممارسة محلة للمسؤولية، وهو شرط قابل للتنفيذ بقليل من الجهد حيث يجب تسوير هذه الأراضي وشغلها بنشاط زراعي، وبذلك يصبح العنف الموجه ضد المعتدي والمقتحم مبرراً وقانونياً، كما أن تسوير الأراضي واشغالها زراعياً قد يمنع جماعات المستوطنين من اقتحامها ودخولها والمكوث فيها بدون استخدام العنف، وذلك من خلال تحريك إجراء قانوني وفقاً للمادة 447 من قانون العقوبات “الإسرائيلي”، التي بموجها يعتبر مثل هذا الاقتحام والدخول جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن الفعلي الذي قد يصل إلى سنتين، وقد تصل العقوبة إلى إلى 4 سنوات إذا كان بحيازة المقتحمين سلاح ناري أو أبيض.
الا أن هذه المادة تعطي الحق أيضاً لمالك الأرض باستخدام القوة المعقولة، من أجل إخراج المقتحم والمتعدي من هذه الأملاك، خلال ثلاثين يوما من اليوم الذي وصل إلى علمه وقوع الاعتداء.
لكنّ هذا الحق لا تجب ممارسته بشكل عفوي أو عشوائي، بل يجب تنظيمه في إطار استراتيجية تتضافر خلالها جميع الجهود سواء اللوجستية أو التسويقية أو القانونية وأخيراً الدعائية.
لحظات اعتقال المحامي طارق برغوث من وسط رام الله “عدسة بهاء ناصر”
أول هذه الجهود وأهمها من أجل السير في هذه الاستراتيجية، هو الجهد اللوجيستي، وهنا يجب تركيز جهود مثل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية من أجل استصلاح الأراضي، خاصة تلك الواقعة في منطقة “سي”، والمعرضة بشكل أكبر للاعتداء، كما أنه من الضرورة للمكان العمل على تسوير هذه الأرض لتوفير شرط الأملاك الزراعية المسورة، وبما أن هذه الأعمال قد تتطلب كماً وفيراً من القوى البشرية، فلا بد من تحقيق السلوك التطوعي، وبالأخص الفئة العمرية الفتية، وبهذا يتم تحقيق هدفين في آن معاً، الأول الحفاظ على معدل كافٍ من القوى البشرية في جميع الأوقات، أما الثاني وهو الأهم، تعزيز الصلة بين الفئات الشبابية والأرض.
أما الجزء الثاني فيتمثل في العملية التسويقية التي سوف تجزم بها شك كل الجهود الأخرى، ولهذا النشاط أهمية بارزة بسبب المواقف المسبقة والعنصرية السائدة في المؤسسات الحكومية “الاسرائيلية”، وخاصة الأمن والمحاكم، سواء المدنية أو العسكرية.
هذا الجهد أصبح أقل صعوبة بسبب التطور التكنولوجي، فتصوير فيلم أو التقاط صورة ما، هو شيئ بديهي يستطيع أياً كان القيام به، ولم يعد الأمر محصوراً على الصحفيين أو المسوقين المحترفين، والصورة أو الفيلم لها قوة باثباتٍ مطلقة سواء بالتحقيقات أو التقاضي أمام المحاكم، إذا كان المصور معروف الهوية وكان لديه استعداد لادلاء شهادة رسمية أمام سلطات التحقيق أو المحكمة.
أما الجهد القانوني، فيلزمه الكثير من التنظيم، يبدأ هذا التنظيم من اللحظة التي يوثق بها الاعتداء وينتهي بالمرافعة أمام المحاكم، وخلال ذلك يتم أخذ شهادات بواسطة قانونيين، الذين سيتوجهون إلى سلطات التحقيق للحرص على انشاء ملف متماسك لا يعاني من ثغرات، قد تلحق الأذى بالقضايا المرفوعة من قبل أصحاب الممتلكات المعتدى عليها.
لا بأس من العمل على شراكة ما بين المؤسسات والجمعيات الحقوقية “الاسرائيلية” الناشطة ضد الحركة الاستيطانية، ومن المفيد أيضاً، عقد ندوات وورشات عمل تنظم من قبل قانونيين متخصصين في قانون الجنائي وقانون الأراضي، يدعى إليها المواطنين والفعاليات المتواجدين في المناطق الساخنة والمعرضة لاعتداءات المستوطنين باستمرار.
وأخيراً لا بد من استثمار كل الجهود السابقة، من أجل بلورة حملة دعائية تخاطب أشخاص من المجتمع الدولي من دول وجمعيات حكومية وغير حكومية، لفضح هذه الممارسات وكشف العلاقة ما بين الحركات الاستيطانية الراعية الممولة لهذه البؤر، والمؤسسة الرسمية “الاسرائيلية” التي تدعي أنها تحاول وقف مثل هذا النوع من الاستيطان.
هذا الفضح وهذا الكشف من شأنه أن يزيد من حدة الضغوط الدولية المطالبة باحترام قرارات الشرعية الدولية.
الأسير المحامي طارق برغوث خلال جلسات محاكمته في محكمة “عوفر العسكرية” عام 2019
إن عدم الأخذ بعقيدة الدفاع عن النفس سوف يؤدي لا محال، إلى تسارع وتيرة الاعتداءات من قبل حكومة الاحتلال وقطعان مستوطنيها، مما سيقرب هذه الأخيرة من تحقيق هدفها غير الشرعي، أي الضم الفعلي من خلال فرض سياسة الأمر الواقع، ولفهم حجم الخطر، لا بد لنا من مراجعة تاريخ الحركة الصهيونية، التي انتهجت نفس الأسلوب منذ الهجرات الأولى إلى أرض فلسطين، وانتهاءً بإعلان قيام دولة الكيان الصهيوني، ها هو السيناريو ذاته يعاد تنفيذه من خلال إنشاء بؤر استيطانية تحاكي مستوطنات الجدار والبرج.
وأخيراً، إن إنكار حق الدفاع الشرعي عن النفس والممتلكات على الفلسطينيين، من قبل سلطات الاحتلال سيقرب هذه الأخيرة أيضاً إلى الإعلان عنها ككيان ممارس لسياسة الفصل العنصري، وإن مثل هذا الإعلان سيوجه ضربة قاسية بل وقاسمه للمشروع الاستيطاني وقد يؤدي إلى شلّه تماما.