رام الله 28-5-2023 وفا- رامي سمارة
“أخبار جيدة! خيمتان بدويتان استولتا على أراضٍ قرب كوخاف هشاحر في السنوات الأخيرة، تغادران المنطقة”. هكذا احتفى المستوطنون بقرار الرحيل، الذي أجمع عليه من تبقى من سكان تجمع عين سامية البدوي، القائم على أراضٍ خاصة تابعة لبلدة كفر مالك، شمال شرق رام الله.
زُفّ الخبر في إحدى مجموعات تطبيق “WhatsApp“، التي تضم مئات المستوطنين من المنتمين لمجموعات “فتية التلال”، التي تتكون من متطرفين يافعين وشبان، يُعرفون بارتكاب جرائم عنف وانتهاكات بحق الفلسطينيين، وغالبيتهم يقطن في بؤر استيطانية “عشوائية”.
ربما كان نص الرسالة -الذي كشفته صحيفة “هآرتس” العبرية- تنقصه كلمة “نجحنا”، فلم يرحل أهالي التجمع طوعاً، بل مكرهين تحت وطأة طوق اللانجاة من المستوطنين، وقيود اللاحياة من جيش الاحتلال.
في ثمانينيات القرن الماضي، طرد جيش الاحتلال أسراً بدوية من عائلة الكعابنة من الموقع الذي تقام عليه مستوطنة حالياً مستوطنة “كوخاف هشاحر”، شمال شرق رام الله، فهاجرت تلك الأسر مسافة نحو كيلومترين، إلى الموقع الذي أخلي مؤخراً، وبقيت فيه إلى أن هُجرت مرة جديدة.
ويقول محمد حسين كعابنة، ممثل تجمع عين سامية، إنه عايش قبل الهجرتين الآنف ذكرهما، تهجيراً بقرار من سلطات الاحتلال للعائلات اللتي كانت تقطن في قرية العوجا قرب أريحا عام 1969.
أما الهجرة الرابعة، والتي كانت الأولى، فهي تهجير عائلة الكعابنة من بئر السبع، إبان النكبة عام 1948.
وعند الاستفسار منه عن دوافع الرحيل، ظن كعابنة التساؤل عتاباً، فأجاب: “رحلنا من الضيق.. لم نعثر على أولادنا في الشارع”.
وراح يشرح كيف تكالب الاحتلال والمستوطنون على أهالي التجمع في آخر خمس سنوات، وعن الأخيرة التي سبقت اتخاذ قرار الهجرة؛ وكيف تحولت إلى جحيم لا يطاق.
تحدث عن رشق المستوطنين للمساكن بالحجارة ليلاً، وإقدامهم على إطلاق الصرخات لترهيب النساء والأطفال، وعن سرقتهم الأغنام بحماية جيش الاحتلال، واستباحتهم لمزارع التجمع وإطلاق المواشي لترعى فيها.
وتطرق أيضاً إلى تضييق مساحات الرعي، والبنى التحتية المحظورة، والتطور العمراني الممنوع، والإخطارات المهددة بهدم المساكن ومحو المدرسة بقرارات “مشرعة” قضائياً وعسكرياً.
“وأنتم نيام في بيوتكم تطلقون علينا الأحكام، وتتساءلون لماذا رحلنا ولم نصمد؟ ولكن كيف نصمد وحدنا في وجه كل ذلك الإرهاب والمضايقات؟ أعتقد أننا صبرنا بما فيه الكفاية، وبقدرٍ فاق ما بُذل لتعزيز صمودنا هنا” أردف كعابنة.
تفرقت العائلات الـ37 التي رحلت مؤخراً من تجمع عين سامية القريب من بلدة كفر مالك، بعضها لجأت إلى أراضٍ على تخوم قرية المغير، وآخرون حطوا رحالهم في خربة أبو فلاح، فيما آثر البعض التوجه إلى منطقة النويعمة القريبة لأريحا.
وذكر بيان لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” أن سكان تجمع عين سامية، وعددهم 178 شخصًا، ومن بينهم 78 طفلًا، فككوا منازلهم وقرروا الرحيل عن تجمعهم، لا بمحض إرادتهم.
وجاء في البيان: “قامت السلطات الإسرائيلية مرارا وتكرارا بهدم المنازل والمباني الأخرى التي تملكها هذه الأسر وهددت بتدمير المدرسة الوحيدة في تجمعها. وفي الوقت ذاته، تقلصت الأراضي المتاحة لرعي المواشي بسبب التوسع الاستيطاني، ويتعرض الأطفال والبالغون على السواء لعنف المستوطنين”.
ويصف محامي مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان وائل القط ما جرى بالأمر الجسيم، وقال: “للأسف اضطُروا إلى الرحيل من مكان إقامتهم تحت ضربات المستوطنين وضغط سياسة الاحتلال في تكامل أدوار واضح بين جيش الاحتلال والمحاكم الإسرائيلية وما تسمى بالإدارة المدنية وعصابات المستوطنين”.
وأوضح أن ما جرى في السنوات الأخيرة في عين سامية يُبرز الموقع الإستراتيجي للمنطقة المقام عليها التجمع، وأضاف: “بالنسبة إلينا كفلسطينيين، يحافظ هذا المكان على تواصل جغرافي بين 3 محافظات وسط الضفة الغربية وشمالها، أريحا، والأغوار، ورام الله، ونابلس. والسيطرة على هذا الموقع تؤدي إلى تقطع أوصال التجمعات الفلسطينية”.
واستناداً إلى ما سبق، يكتسب الموقع أهمية قصوى بالنسبة إلى المستوطنين، لا سيما أنه محاذٍ لمستوطنة “كوخاف هشاحر”، بالإضافة إلى وجود 4 بؤر استيطانية “رعوية” كانت تحيط بتجمع عين سامية البدوي من كل الجهات.
وأضاف المحامي القط، أن وصول السكان إلى مرحلة مغادرة الموقع، تحديدا إلى الشرق من شارع “ألون” الاستيطاني يؤدي إلى وجود حيز كامل للمستوطنين، وهذه كارثة إستراتيجية وتنطوي على خطر كبير يهدد ترابط التجمعات الفلسطينية في المنطقة.
هل كان على الأرض ما يمكن القيام به قبل تهجير أهالي التجمع؟ لا ونعم، يجيب محامي مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.
ويقول: “على الصعيد القانوني وداخل أروقة محاكم الاحتلال، استُنفدت الإجراءات بشكل كامل، حيث اضطُررنا إلى التوجه إلى محاكم الاحتلال (المركزية والعليا) أربع مرات بأربعة التماسات منفصلة وجوبهت كلها بالرفض، ومنها القرار الخاص بالمدرسة الممولة أوروبياً.
ويشير إلى أنه وفي أفضل القرارات، حصل الطاقم القانوني على تجميد قرارات الهدم والترحيل لفترات محدودة، ولكن في نهاية المطاف، خضعت جميع الطلبات التي تم تقديمها من المركز، لإرادة الجيش والمستوطنين.
أما على الصعيد الدولي، فربما كان هناك فرصة لإنقاذ سكان التجمع، كما يقول المحامي وائل القط، “إذ تم توجيه كتب إلى جميع البعثات الدبلوماسية ومكاتب الأمم المتحدة، ولكن لم يكن هنالك دور يحول دون تعرض المواطن الفلسطيني الذي أقام في تلك المنطقة لعنف المستوطنين مساءً، ولإجراءات الاحتلال نهاراً، فوجد نفسه محاصراً، ومن أجل حماية أطفاله اضطُر إلى الرحيل وهذا واقع مؤلم جداً”.
وبحسب بيان “أوتشا”، فلم يكن تجمع عين سامية الأول من نوعه، فقد جرى تهجير عدة تجمعات سكانية فلسطينية مؤخرًا في ظروف مشابهة.
فمنذ عام 2022، اضطُر 81 فلسطينيًا، من بينهم 42 طفلًا، إلى الرحيل عن تجمعاتهم السكانية في وادي السيق ولِفُجِم، وبالمثل، رحل في العام المنصرم نحو 100 شخص عن تجمعهم السكاني في راس التين.
وبحسب مركز القدس للمساعدة القانونية، فإن العامل المشترك بين التجمعات الثلاثة هو ترحيل سكانها بعد استهداف عصابات المستوطنين لهم، وإحراق منشآتهم وحتى علف حيواناتهم، بما يعكس مستوى التنسيق العالي بين “الإدارة المدنية” وزعامات المستعمرين، الذين مُنحوا موازنات وصلاحيات لمراقبة البناء الفلسطيني في المنطقة “ج” ووقفه.
المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، اعتبر ما يجري تنفيذاً لسياسة تهجير وتطهير عرقي مبرمجة، تشنها حكومة الاحتلال ضد التجمعات البدوية في الضفة الغربية عامة، وتلك الواقعة على امتداد بوابة القدس الشرقية، على أراضي عناتا والعيسوية والزعيم، لربط تجمع مستوطنات “معاليه أدوميم” بمدينة القدس المحتلة.
ثم سيصار إلى التمدد نحو تجمعات يسكنها عرب الجهالين في المنطقة المعروفة ب (E1)، وصولا إلى البحر الميت والتجمعات الرعوية في مناطق الأغوار الشمالية ومناطق شفا الغور، أي تلك التي تطل على الأغوار في سلسلة الجبال والهضاب الشرقية للضفة الغربية، كتجمع المعرجات بين مدينتي رام الله وأريحا، وتجمع عين سامية في منحدرات كفر مالك، وتجمع خربة طانا في امتداد بلدتي بيت فوريك وبيت دجن في محافظة نابلس، فضلا عن التجمعات الرعوية والزراعية في مناطق جنوب الخليل في مسافر يطا.
وبحسب تقرير المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، يجري التركيز على سكان تلك التجمعات بمختلف الوسائل، من عمليات هدم للبيوت والمنشآت، والحرمان من حق الحصول على الكهرباء، أو الوصول إلى مصادر المياه، ليُضطَر الأهالي إلى الرحيل.
وقالت إيفون هيلي، نائبة المنسق الإنساني في مكتب الأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إن التبعات المأساوية للسياسات الإسرائيلية وعنف المستوطنين الإسرائيليين طويلة الأمد.
وأضافت، أن عمليات الهدم المتكررة، والتوسع الاستيطاني، وفقدان إمكانية الوصول إلى أراضي الرعي، وعنف المستوطنين، عوامل تزيد من المخاوف إزاء البيئة القسرية التي تجبر على الرحيل والهجرة، وعلاوة على فقدان المأوى وإمكانية الوصول إلى الأراضي، فإنها تزيد من الحاجة إلى المساعدات الإنسانية.
مركز “بتسيلم” الحقوقي الإسرائيلي، يشير إلى أن السياسة الرامية إلى تمكين الاحتلال من الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، لوضعها تحت تصرف المستوطنين وفي خدمتهم، يجري تطبيقها في مختلف أنحاء الضفة الغربية، ضد عشرات التجمعات الفلسطينية، وهي سياسة غير قانونية، انطلاقاً من أن إجبار السكان على الرحيل يمثل “جريمة حرب”.
وحسب القانون الدولي، يُعرف التهجير القسري بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وهذا التعريف جاء من المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي حظرت النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراضٍ أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة.
ــــــــ
س.ك