كتب د. عبد الرحيم الشيخ استاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت
في الثلث الأخير من شارع رقم (443-شارع حاجز “مودعين”)، والذي يمتد من معسكر و”سجن عوفر” إلى مدينة اللد المحتلة، ترى على يسارك لافتة مكتوب عليها بالعبرية والإنجليزية: “شهداء زاغليمبيا.” تشير اللافتة إلى موقع محاذٍ لها خصص لإقامة نصب تذكاري لـ”شهداء زاغليمبيا”، البلدة الواقعة في جنوب-غرب بولندا، والتي قضى سكانها اليهود (13-100 ألف كما تشير المصادر)، بين السخرة والإبادة في معسكرات أوشفيتس المجاورة خلال المحرقة النازية في 12 آب من العام 1942. ويتكوَّن النصب، الذي أقيم على مساحة تقارب الدونم، برعاية “الكيرن كييمت”، من: جدار رخامي بنِّي مستطيل مخصص لسرد موجز الرواية بالإنجليزية والعبرية، وأمامه خارطة الغيتو محفورة على رخام أسود مثبت في صخرة، وبمحاذاته جداران آخران يحملان أسماء المتبرعين، وإلى الغرب منه درج يفضي إلى صخور بيضاء بارتفاع متر واحد تحمل كل منها اسم بلدة بولندية قضى سكانها اليهود (ولافتة معدنية صغيرة باسم واحد ممن قتلوا في “حروب إسرائيل” من أبناء الناجين من زاغليمبيا)، وإلى الشرق منه حائط التخليد الفعلي المؤطَّر بالحجر الأبيض الذي يحيط ببلاط الرخام الأسود الذي كتبت عليه أسماء “شهداء زاغليمبيا،” ويعلوه مجسَّم فولاذي صدئ هائل الحجم لكلمة-الدعاء “فليتذكَّر[ـهم الله] יזכור” بالعبرية وقد سقط منها حرف “الياء،” بعد الحريق الذي اجتاح المنطقة في العام 2019، ولم يُعد إلى مكانه لتصير الكلمة “تذكَّر זכור”… فعل أمر لا دعاء فيه، ولا إله.
الكتابة عن هذا النصب، وبعيداً عن الاهتمام بسياسات التسمية والموت والحياة، حفَّزتها المقولات والسياسات الأوروبية العنصرية التي طفت على السطح على هامش الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا. في بولندا، وغيرها، ثبت، بالصوت والصورة، تعامل السلطات مع اللاجئين الملونين، ومنهم العربي والأفريقي والهندي، على نحو عنصري، لا لشيء إلا لأنهم لا ينتمون عرقياً إلى جغرافيتها البيضاء البارعة في إنتاج العنصرية، والحرب، والإبادة… على مستويي النظرية والتطبيق. ولعل من المفارقة التاريخية ألا تعترف الجغرافيا المنتجة للمعاناة بمعاناة “غير البيض،” كما أسهمت، من قبل، في تدفيعهم ثمن سعار سياسات الهوية، ليس في أوروبا وحسب، بل وخارجها كذلك. ففي فلسطين (التي صارت “إسرائيل”)، مثلاً، وبين كل لافتة وأخرى، يذكِّرونك أن عليك التعامل مع “تبييض” ذاكرتك، أي مع نسيان لونك، وليس فقط مع “الذاكرة البيضاء”، و”الجغرافيا البيضاء” التي تم استزراعها في بلادك. لا جدال في معاناة يهود زاغليمبيا، لا أمس ولا اليوم ولا غداً، ولكن على من يقرأ “فليتذكَّر[ـهم الله]” بصيغة الدعاء، أو “تذكَّر” بصيغة الأمر، أن يتذكَّر أهل خربة زكريا (شرق الرملة المحتلة)، التي كانت هنا، وطهِّرت عرقياً في 12 تموز 1948، وأقيم النصب على أرضها، لا لشيء إلا لأن مستوطناً ألمانيا، ربطته علاقة عائلية و”فنية” بحزب عمَّالي لمستوطني بولندا (بوعلي أغودات يسرائيل)… الذين منحوه الأرض لإقامة قرية تعاونية (ميفو موديعيم) في العام 1975، أقيم النصب في شمال-غربها.
خلاصة الأمر،
تطهير، فاستزراع، فتذكُّر…
فلنتذكَّر خربة زكريا، بين الدعاء والأمر،
ولنتذكَّر فلسطين بالأبيض والأسود.